فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لك الخيران وارتْ بك الأرض واحدًا

والاستفهام في {أتعلمون الله بدينكم} مستعمل في التوبيخ وقد أيد التوبيخ بجملة الحال في قوله: {والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض}.
وفي هذا تجهيل إذ حاولوا إخفاء باطنهم عن المطّلع على كل شيء.
وجملة {والله بكل شيء عليم} تذييل لأن {كل شيء} أعم من {ما في السماوات وما في الأرض} فإن الله يعلم صفاته ويعلم الموجودات التي هي أعلى من السماوات كالعرش.
{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)}.
استئناف ابتدائي أريد به إبطال ما أظهره بنو أسد للنبيء صلى الله عليه وسلم من مزيتهم إذ أسلموا من دون إكراه بغزو.
والمنّ: ذكر النعمة والإحسان ليراعيَه المحسَن إليه للذاكر، وهو يكون صريحًا مثل قول سبرة بن عمرو الفقعسي:
أتنسى دفاعي عنك إذ أنت مُسلم ** وقد سال من ذل عليك قراقر

ويكون بالتعريض بأن يذكر المان من معاملته مع الممنون عليه ما هو نافعه مع قرينة تدلّ على أنه لم يرد مجرد الإخبار مثل قول الراعي مخاطبًا عبد الملك بن مروان:
فآزرت آل أبي خُبيب وافدا ** يومًا أريد لبيعتي تبديلا

أبو خبيب: كنية عبد الله بن الزبير.
وكانت مقالة بني أسد مشتملة على النوعين من المنّ لأنهم قالوا: ولم نقاتلك كما قاتلك محارب وغَطَفان وهوازن وقالوا: وجئناك بالأثقال والعيال.
و{أن أسْلَمُوا} منصوب بنزع الخافض وهو باء التعدية، يقال: منّ عليه بكذا، وكذلك قوله: {لا تمنوا على إسلامكم} إلا أن الأول مطرد مع {أنْ} و(أن) والثاني سماعي وهو كثير.
وهم قالوا للنبيء صلى الله عليه وسلم آمنَّا كما حكاه الله آنفًا، وسماه هنا إسلامًا لقوله: {ولكن قولوا أسلمنا} [الحجرات: 14] أي أن الذي مَنُّوا به عليك إسلام لا إيمان.
وأثبت بحرف {بَل} أن ما مَنُّوا به إن كان إسلامًا حقًا موافقًا للإيمان فالمنّة لله لأنْ هداهم إليه فأسلموا عن طواعية.
وسماه الآن إيمانًا مجاراة لزعمهم لأن المقام مقام كون المنّة لله فمناسبة مُسَابَرَة زعمهم أنهم آمنوا، أي لو فرض أنكم آمنتم كما تزعمون فإن إيمانكم نعمة أنعم الله بها عليكم.
ولذلك ذيله بقوله: {إن كنتم صادقين} فنفى أولًا أن يكون ما يمنّون به حقًا، ثم أفاد ثانيًا أن يكون الفضل فيما ادعوه لهم لو كانوا صادقين بل هو فضل الله.
وقد أضيف إسلام إلى ضميرهم لأنهم أتوا بما يسمى إسلامًا لقوله: {ولكن قولوا أسْلَمْنا}.
وأُتي بالإيمان معرّفا بلام الجنس لأنه حقيقة في حدّ ذاته وأنهم ملابسوها.
وجيء بالمضارع في {يمنون} مع أن منَّهم بذلك حصل فيما مضى لاستحضار حالة منّهم كيف يمنون بما لم يفعلوا مثل المضارع في قوله تعالى: {ويسخرون من الذين آمنوا} في سورة البقرة (212).
وجيء بالمضارع في قوله: {بل اللَّه يمن عليكم} لأنه مَنّ مفروض لأن الممنون به لمّا يقع.
وفيه من الإيذان بأنه سيمنّ عليهم بالإيمان ما في قوله: {ولمَّا يدخُل الإيمان في قلوبكم} [الحجرات: 14]، وهذا من التفنن البديع في الكلام ليضع السامع كل فنّ منه في قراره، ومثلهم من يتفطن لهذه الخصائص.
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي لإفادة التقوية مثل: هو يعطي الجزيل، كما مثَّل به عبد القاهر.
{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)}.
ذُيِّل تقويمُهم على الحق بهذا التذييل ليعلموا أن الله لا يُكتم، وأنه لا يُكذَب، لأنه يعلم كُلَّ غائبة في السماء والأرض فإنهم كانوا في الجاهلية لا تخطر ببال كثير منهم أصول الصفات الإلهية.
وربما علمها بعضهم مثل زهير في قوله:
فلا تكتمُنّ الله ما في نفوسكم ** ليَخفى فَمَهْمَا يُكْتم الله يعلَم

ولعل ذلك من آثار تنصره.
وتأكيد الخبر بـ {إن} لأنهم بحال من ينكر أن الله يعلم الغيب فكذبوا على النبي صلى الله عليه وسلم مع علمهم أنه مرسل من الله فكان كذبهم عليه مثل الكذب على الله.
وقد أفادت هذه الجملة تأكيد مضمون جملتي {والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شيء عليم} [الحجرات: 16] ولكن هذه زادت بالتصريح بأنه يعلم الأمور الغائبة لئلا يتوهم متوهم أن العمومين في الجملتين قبلها عمومان عرفيان قياسًا على عِلم البشر.
وجملة {والله بصير بما تعملون} معطوف على جملة {إن الله يعلم غيب السماوات والأرض} عطف الأخص على الأعم لأنه لما ذكر أنه يعلم الغيب وكان شأن الغائب أن لا يُرى عطف عليه علمه بالمبصرات احتراسًا من أن يتوهّموا أن الله يعلم خفايا النفوس وما يجول في الخواطر ولا يعلم المشاهدات نظير قول كَثير من الفلاسفة: إنّ الخالق يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات، ولهذا أوثر هنا وصف {بصير}.
وقرأ الجمهور {بما تعملون} بتاء الخطاب، وقرأه ابن كثير بياء الغيبة. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى}.
قيل: غضب الحارث بن هشام وعتاب بن أسيد حين أذن بلال يوم فتح مكة على الكعبة، فنزلت.
وعن ابن عباس، سببها قول ثابت بن قيس لرجل لم يفسح له عند النبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن فلانة؛ فوبخه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: «إنك لا تفضل أحدًا إلا في الدين والتقوى».
ونزل الأمر بالتفسح في ذلك أيضًا.
{من ذكر وأنثى}: أي من آدم وحواء، أو كل أحد منكم من أب وأم، فكل واحد منكم مساوٍ للآخر في ذلك الوجه، فلا وجه للتفاخر.
{وجعلناكم شعوبًا وقبائل}: وتقدم الكلام على شيء من ذلك في المفرادت.
وقيل: الشعوب في العجم والقبائل في العرب، والأسباط في بني إسرائيل.
وقيل: الشعوب: عرب اليمن من قحطان، والقبائل: ربيعة ومضر وسائر عدنان.
وقال قتادة، ومجاهد، والضحاك: الشعب: النسب الأبعد، والقبيلة: الأقرب، قال الشاعر:
قبائل من شعوب ليس فيهم ** كريم قد يعدّ ولا نجيب

وقيل: الشعوب: الموالي، والقبائل: العرب.
وقال أبو روق: الشعوب: الذين ينسبون إلى المدائن والقرى، والقبائل: الذين ينسبون إلى آبائهم. انتهى.
وواحد الشعوب شعب، بفتح الشين.
وشعب: بطن من همدان ينسب إليه عامر الشعبي من سادات التابعين، والنسب إلى الشعوب شعوبية، بفتح الشين، وهم الأمم التي ليست بعرب.
وقيل: هم الذين يفضلون العجم على العرب، وكان أبو عبيدة خارجيًا شعوبيًا، وله كتاب في مناقب العرب، ولابن غرسبة رسالة فصيحة في تفضيل العجم على العرب، وقد رد عليه ذلك علماء الأندلس برسائل عديدة.
وقرأ الجمهور: {لتعارفوا}، مضارع تعارف، محذوف التاء؛ والأعمش: بتاءين؛ ومجاهد، وابن كثير في رواية، وابن محيصن: بإدغام التاء في التاء؛ وابن عباس، وأبان عن عاصم: {لتعرفوا}، مضارع عرف؛ والمعنى: أنكم جعلكم الله تعالى ما ذكر، كي يعرف بعضكم بعضًا في النسب، فلا ينتمي إلى غير آبائه، لا التفاخر بالآباء والأجداد، ودعوى التفاضل، وهي التقوى.
وفي خطبته عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة: «إنما الناس رجلان، مؤمن تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله»، ثم قرأ الآية.
وعنه صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله» وما زال التفاخر بالأنساب في الجاهلية والإسلام، وبالبلاد، وبالبلاد وبالمذاهب وبالعلوم وبالصنائع، وأكثره بالأنساب:
وأعجب شيء إلى عاقل ** فروع عن المجد مستأخره

إذا سئلوا ما لهم من علا ** أشاروا إلى أعظم ناخره

ومن ذلك: افتخار أولاد مشايخ الزوايا الصوفية بآبائهم، واحترام الناس لهم بذلك وتعظيمهم لهم، وإن كان الأولاد بخلاف الآباء في الدين والصلاح.
وقرأ الجمهور: إن، بكسر الهمزة؛ وابن عباس: بفتحها، وكان قرأ: {لتعرفوا}، مضارع عرف، فاحتمل أن تكون أن معموله {لتعرفوا}، وتكون اللام في لتعرفوا لام الأمر، وهو أجود من حيث المعنى.
وأما إن كانت لام كي، فلا يظهر المعنى أن جعلهم شعوبًا وقبائل لأن تعرفوا أن الأكرم هو الأتقى.
فإن جعلت مفعول لتعرفوا محذوفًا، أي لتعرفوا الحق، لأن أكرمكم عند الله أتقاكم، ساغ في لام لتعارفوا أن تكون لام كي.
{قالت الأعراب آمنا}، قال مجاهد: نزلت في بني أسد بن خزيمة، قبيلة تجاور المدينة، أظهروا الإسلام وقلوبهم دخلة، إنما يحبون المغانم وعرض الدنيا.
وقيل: مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار قالوا آمنا فاستحققنا الكرامة، فردّ الله تعالى عليهم بقوله: {قل لم تؤمنوا}، أكذبهم الله في دعوى الإيمان، ولم يصرح بإكذابهم بلفظه، بل بما دل عليه من انتفاء إيمانهم، وهذا في أعراب مخصوصين.
فقد قال الله تعالى: {ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر} الآية.
{ولكن قولوا أسلمنا}، فهو اللفظ الصادق من أقوالكم، وهو الاستسلام والانقياد ظاهرًا، ولم يواطئ أقوالكم ما في قلوبكم، فلذلك قال: {ولما يدخل الإيمان في قلوبكم}: وجاء النفي بلما الدالة على انتفاء الشيء إلى زمان الإخبار، وتبين أن قوله: {لم تؤمنوا} لا يراد به انتفاء الإيمان في الزمن الماضي، بل متصلًا بزمان الإخبار أيضًا، لأنك إذا نفيت بلم، جاز أن يكون النفي قد انقطع، ولذلك يجوز أن تقول: لم يقم زيد وقد قام، وجاز أن يكون النفي متصلًا بزمن الإخبار.
فإذا كان متصلًا بزمن الإخبار، لم يجز أن تقول: وقد قام، لتكاذب الخبرين.
وأما لما، فإنها تدل على نفي الشيء متصلًا بزمان الإخبار، ولذلك امتنع لما يقم زيد وقد قام للتكاذب.
والظاهر أن قوله: {لما يدخل الإيمان في قلوبكم} ليس له تعلق بما قبله من جهة الإعراب.
وقال الزمخشري: فإن قلت: هو بعد قوله: {قل لم تؤمنوا} يشبه التكرير من غير استقلال بفائدة متجددة؛ قلت: ليس كذلك، فإن فائدة قوله: {لم تؤمنوا} هو تكذيب دعواهم، وقوله: {ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} توقيت لما أمروا به أن يقولوه، كأنه قيل لهم: {ولكن قولوا أسلمنا} حين لم يثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم، لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في قوله: {قولوا}. انتهى.
والذي يظهر أنهم أمروا أن يقولوا: {قولوا أسلمنا} غير مقيد بحال، وأن {ولما يدخل الإيمان} إخبار غير قيد في قولهم.
وقال الزمخشري: وما في لما من معنى التوقع دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد.
انتهى، ولا أدري من أي وجه يكون ما نفي بلما يقع بعد ولما، إنما تنفي ما كان متصلًا بزمان الإخبار، ولا تدل على ما ذكر، وهي جواب لقد فعل، وهب أن قد تدل على توقع الفعل.
فإذا نفي ما دل على التوقع، فكيف يتوهم أنه يقع بعد: {وإن تطيعوا الله ورسوله} بالإيمان والأعمال؟ وهذا فتح لباب التوبة.
وقرأ الجمهور: {لا يلتكم}، من لات يليت، وهي لغة الحجاز.
والحسن والأعرج وأبو عمرو: {ولا يألتكم}، من ألت، وهي لغة غطفان وأسد.
{ثم لم يرتابوا}، ثم تقتضي التراخي، وانتفاء الريبة يجب أن يقارن الإيمان، فقيل: من ترتيب الكلام لا من ترتيب الزمان، أي ثم أقول لم يرتابوا.
وقيل: قد يخلص الإيمان، ثم يعترضه ما يثلم إخلاصه، فنفي ذلك، فحصل التراخي، أو أريد انتفاء الريبة في الأزمان المتراخية المتطاولة، فحاله في ذلك كحاله في الزمان الأول الذي آمن فيه.
{أولئك هم الصادقون}: أي في قولهم {آمنا}، حيث طابقت ألسنتهم عقائدهم، وظهرت ثمرة ذلك عليهم بالجهاد بالنفس والمال.
وفي سبيل الله يشمل جميع الطاعات البدنية والمالية، وليسوا كأعراب بني أسد في قولهم {آمنا}، وهم كاذبون في ذلك.
{قل أتعلمون الله بدينكم}، هي منقولة من: علمت به، أي شعرت به، ولذلك تعدّت إلى واحد بنفسها وإلى الآخر بحرف الجر لما ثقلت بالتضعيف، وفي ذلك تجهيل لهم، حيث ظنوا أن ذلك يخفى على الله تعالى.
ثم ذكر إحاطة علمه بما في السموات والأرض.
ويقال: منّ عليهم بيد أسداها إليه، أي أنعم عليه.
المنة: النعمة التي لا يطلب لها ثواب، ثم يقال: منّ عليه صنعه، إذا اعتده عليه منة وإنعامًا، أي يعتدون عليك أن أسلموا، فإن أسلموا في موضع المفعول، ولذلك تعدى إليه في قوله: {قل لا تمنوا عليّ إسلامكم}.
ويجوز أن يكون أسلموا مفعولًا من أجله، أي يتفضلون عليك بإسلامهم.
{أن هداكم للإيمان} بزعمكم، وتعليق المن بهدايتهم بشرط الصدق يدل على أنهم ليسوا مؤمنين، إذ قد بين تعالى كذبهم في قولهم آمنا بقوله: {قل لم تؤمنوا}.
وقرأ عبد الله وزيد بن عليّ، {إذ هداكم}، جعلا إذ مكان إن، وكلاهما تعليل، وجواب الشرط محذوف، أي {إن كنتم صادقين}، فهو المانّ عليكم.
وقرأ ابن كثير وأبان عن عاصم: {يعلمون}، بياء الغيبة، والجمهور: بتاء الخطاب. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {يأَيُّهَا الناس إِنَّا خلقناكم مّن ذَكَرٍ وأنثى}.
هما آدم وحوّاء، والمقصود أنهم متساوون؛ لاتصالهم بنسب واحد، وكونه يجمعهم أب واحد وأمّ واحدة، وأنه لا موضع للتفاخر بينهم بالأنساب، وقيل المعنى: أن كل واحد منكم من أب وأمّ، فالكل سواء {وجعلناكم شُعُوبًا وَقَبَائِلَ} الشعوب: جمع شعب بفتح الشين، وهو الحيّ العظيم، مثل: مضر، وربيعة، والقبائل دونها كبني بكر من ربيعة، وبني تميم من مضر.
قال الواحدي: هذا قول جماعة من المفسرين، سموا شعبًا، لتشعبهم واجتماعهم كشعب أغصان الشجرة، والشعب من أسماء الأضداد، يقال شعبته: إذا جمعته، وشعبته: إذا فرّقته، ومنه سميت المنية شعوبًا لأنها مفرّقة، فأما الشعب بالكسر: فهو الطريق في الجبل.
قال الجوهري: الشعب ما تشعب من قبائل العرب والعجم، والجمع الشعوب.